فلسطين المحتلة - خاص قدس الإخبارية: في 18 فبراير 1949، تم الإعلان رسميا عن وجود "جهاز الأمن" (الشاباك) وكانت المهام الموكلة إليه هي: مكافحة التجسس، والمسؤولية عن أمن المؤسسات والمرافق الأساسية في "إسرائيل" والبعثات في الخارج، ومحاربة أي محاولات داخلية للقيام بانقلابات سياسية أو نشاطات أمنية محظورة، وإحباط عمليات المقاومة الفلسطينية. كان لدى الشاباك عدة مئات من الموظفين الذين عملوا كمنسقين ميدانيين (ضباط مناطق)، ومحققين، ومستعربين، ومحللي معلومات، وموظفين تكنولوجيين وإداريين، وضباط أمن وحراس أمن. اتسم نشاط الشاباك في الخمسينيات والستينيات بشكل أساسي بمكافحة العنف الداخلي بين المستوطنين، ومواجهة التجسس من دول أوروبا الشرقية والعرب.
منذ عام 1967، نشط جهاز الشاباك في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان، بهدف منع عمليات المقاومة الفلسطينية في أعقاب اختطاف طائرة شركة العال الجزائر عام 1968 ومقتل الرياضيين الإسرائيليين في ميونيخ،وقد أنشأ الشاباك بعدها نظاما أمنيا شاملا في العالم، لحماية الأهداف الإسرائيلية. بينما تميزت الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي بانخراط الشاباك أكثر في الشؤون السياسية، فقد كان عنصرا أساسيا في العمليات العسكرية في جنوب لبنان، وكشف "الحركة السرية اليهودية"، وكشف قضايا التجسس والخيانة، وكان له دور مهم في صياغة اتفاق أوسلو وفيما بعد في التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية.
وفي تاريخه شهد الجهاز عدة أزمات، كان أبرزها قضية "الخط 300" التي أثارت انتقادات خارجية وأدت إلى أزمة داخلية داخل الجهاز وبين الجهاز والمستوى السياسي لدى الاحتلال، وهي القضية التي وصلت إلى القضاء الإسرائيلي، وملخصها أن محققي الجهاز قتلوا مقاومين اثنين نفذوا عملية أسر لإسرائيليين داخل حافلة، ومن سوء حظ المحققين الذين قاموا بالجريمة كانت كاميرا أحد الصحفيين قد صورت الفدائيين الاثنين وهم على قيد الحياة، وقد تسبب ذلك بردود فعل عالمية دفعت الاحتلال لتحميل المسؤولية لبعض الضباط الذين قاموا بدورهم بتحميل المسؤولية لضباط آخرين وقد نشبت أزمة كبيرة داخل الجهاز ومعه. الأزمة الكبيرة التي واجهها الجهاز كانت في أعقاب مقتل رئيس وزراء الاحتلال السابق يتسحاق رابين.
لكن الأزمة الأبرز في تاريخ جهاز الشاباك، كانت فشله في التنبؤ بإمكانية تنفيذ حركة حماس لهجوم واسع على مستوطنات غلاف غزة. ورغم اعتراف رئيس الجهاز رونين بار بالفشل وتحمل المسؤولية عن الفشل الذريع، إلا أنه في الحقيقية يبدو أن الجهاز بدأ حربا خفية مع المستوى السياسي الإسرائيلي بزعامة بنيامين نتنياهو الذي يحاول أن ينجو بنفسه في مقابل توريط الآخرين في مسؤولية الفشل. لقد بدأ نتنياهو فعليا في هذه المعركة مع أذرع الأمن المختلفة لدى الاحتلال عندما رفض تحمل المسؤولية عن الفشل، بينما هاجم مقربون منه المؤسسة الأمنية لدى الاحتلال مؤكدين على أن توصياتها التي كانت تفيد بأن حماس غير معنية بالحرب هي التي كانت وراء هذا الفشل الكبير.
ويمكن الإشارة إلى أن التسريبات التي ظهرت فجأة في وسائل الإعلام الإسرائيلية قبل أيام عن نية نتنياهو إقالة رئيس الشاباك كانت بمثابة بالون اختبار من كل الأطراف، وقد أدت - رغم كونها تسريبات - إلى عاصفة من الانتقادات للمستوى السياسي الإسرائيلي، مما دفع نتنياهو للتأكيد عبر مكتبه عدم صحة هذه المعلومات، وهو بهذا التصريح أنهى فعليا هذه المغامرة مع الجهاز، وقد لجأ هو وأنصاره إلى أداة أخرى في مواجهة الجهاز تتمثل في الرأي العام عبر اتهام الجهاز بتنفيذ أجندة سياسية وكذلك تعذيب معتقلين من مكتب نتنياهو وإساءة معاملتهم، ويبدو أن نتنياهو لجأ لنفس الأداة التي يحاربه فيها الجهاز؛ الجمهور.
وتبدو معركة نتنياهو مع جهاز الشاباك معقدة أكثر من معركته مع الجيش، لأن الجهاز يمتلك ملفات سرية وقادر على الاطلاع على قضايا تحرج نتنياهو خاصة وأن صلاحياته توسعت بعد سن قانون الشاباك في عام 2002، فقد أوكل للجهاز مهمة التأكد من سلامة الإجراءات داخل مؤسسات الدولة بما يضمن الحفاظ على "ديمقراطيتها". وهذا ما مكن الشاباك من الاطلاع على ملفات تتعلق بعمل الوزارات والوزراء والموظفين ومكتب رئيس الوزراء، وبالتالي فإن حجم المعلومات التي يمتلكها قادر على خلق أزمة لأي طرف كان في المستوى السياسي في حال قرر ذلك. قد يكون هذا السبب الذي دفع وزراء في حكومة نتنياهو من بينهم إيتمار بن غبير لاتهام الجهاز بتنفيذ محاولة انقلاب من خلال طرح ملفات قديمة وحديثة على الطاولة، وكذلك خشية بعض قادة حزب الليكود من بينهم غالي غوتليب التي صرحت علانية أنها تخشى أن ينسج لها الجهاز قصة لإحراجها.
ولعلّ موقف الشاباك هذه المرة أكثر قوة في أزمته الحالية مع المستوى السياسي بزعامة نتنياهو، فالأخير يقود معركة مع كل أذرع الأمن تقريبا، إذ أن وزرائه والمقربين منه يهاجمون الجيش ليل نهار رغم أنه المؤسسة الأكثر ثقة لدى جمهور المستوطنين، وبالتالي فإن الجهاز يقود معركة مع نتنياهو نيابة عن المؤسسة الأمنية ككل، وهذا ما يمنحه فرصة في الانتصار في هذه المعركة. لكن السؤال الأهم: ما هي نتيجة الانتصار؟ وما هي تبعاته تبعا لنتيجته؟. إن هذه الأزمة ستتفاقم إذا انتهت الحرب وتشكلت لجنة التحقيق الرسمية في أحداث 7 أكتوبر، حينها سيلقي كل طرف بثقله في سياق تحميل الآخر مسؤولية الفشل، وستبدو مظاهر الأزمة الحالية (تحقيقات في تسريب وثائق سرية وتزييف مستندات) لا شيء أمام ما سيتم الكشف عنه في تلك المرحلة المستقبلية.
ومن المؤكد أن الرأي العام الإسرائيلي سيكون مهيئا للخروج والتغيير أكثر في مرحلة ما بعد الحرب، ولهذا فإن المؤسسة الأمنية التي استعبدها نتنياهو وكسر شوكتها على امتداد سنوات حكمه، ستنتقم أولا بأثر رجعي منه بسبب سياسته تجاهها، ثم ستحاول توريطه أكثر في قضية فشل 7 أكتوبر، ولن تتوانى كذلك في الكشف عن قضايا فساد وكواليس محرجة لنتنياهو تتعلق بسياسته الداخلية وإدارته للحياة السياسية الإسرائيلية والحرب. في هذه المرحلة سيكون الشاباك المطلع أكثر من غيره على الخفايا، رأس حربة في مواجهة نتنياهو من خلال وسائل الإعلام والرأي العام والقانون والمحاكم.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا